(فصل)
روى مسلم في صحيحه : من حديث أبى الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله عز وجل " .
وفي الصحيحين : عن عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " .
وفي
مسند الإمام أحمد : من حديث زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك ، قال :
كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول
الله ! أنتداوى ؟ فقال : " نعم يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم " .
وفي لفظ : " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله " .
وفي المسند : من حديث ابن مسعود يرفعه : " إن
الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله
" وفي المسند و السنن : عن أبي خزامة ، قال : قلت : يا رسول الله !
أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر
الله شيئاً ؟ فقال : " هي من قدر الله " .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : " لكل داء دواء
" ، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن لطبيب
أن يبرئها ، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها
عن البشر ، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً ، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم
الله ، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء
للداء ، فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد ، وكل داء له ضد من الدواء
يعالج بضده ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء ،
وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في
الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي ، نقله إلى داء آخر ، ومتى قصر
عنها لم يف بمقاومته ، وكان العلاج قاصراً ، ومتى لم يقع المداوي على
الدواء ، أو لم يقع الدواء على الداء ، لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن
الزمان صالحاً لذلك الدواء ، لم ينفع ، ومتى كان البدن غير قابل له ، أو
القوة عاجزة عن حمله ، أو ثم مانع يمنع من تأثيره ، لم يحصل البرء لعدم
المصادفة ، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا أحسن
المحملين في الحديث .
والثاني
: أن يكون من العام المراد به الخاص ، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف
أضعاف الخارج منه ، وهذا يستعمل في كل لسان ، ويكون المراد أن الله لم يضع
داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل
الدواء ، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : " تدمر كل شيء بأمر ربها " [ الأحقاف : 25 ] أي كل شئ يقبل التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره ، ونظائره كثيرة .
ومن
تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ، ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع بعضها ببعض ،
وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة الرب تعالى ، وحكمته ، وإتقانه
ما صنعه ، وتفرده بالربوبية ، والوحدانية ، والقهر ، وأن كل ما سواه فله
ما يضاده ويمانعه ، كما أنه الغني بذاته ، وكل ما سواه محتاج بذاته .
وفي
الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه
دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة
التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً
وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ،
ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزاً
ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في
دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الإعتماد من
مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه
توكلاً ، ولا توكله عجزاً .
وفيها
رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر ، فالتداوي لا يفيد
، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك . وأيضاً ، فإن المرض حصل بقدر الله ، وقدر
الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل الصحابة ، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من
أن يوردوا مثل هذا ، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى ،
فقال : هذه
الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره ، بل يرد قدره
بقدره ، وهذا الرد من قدره ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما ، وهذا
كرد قدر الجوع ، والعطش والحر ، والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد
وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال
: هذا يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو
تدفع بها مضرة ، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا ، لم يكن بد من وقوعهما ،
وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا ،
وفساد العالم ، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له ، فيذكر القدر
ليدفع حجة المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا : "
لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " [ الأنعام : 148 ] ، و " لو شاء الله
ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا " [ النحل : 35 ] ، فهذا قالوه دفعاً لحجة الله عليهم بالرسل .
وجواب
هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، هو أن الله قدر كذا وكذا
بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا ، فإن قال : إن كان
قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله .
قيل :
فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك ، وولدك ، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما
أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من عصاك ، وأخذ مالك
، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف يكون مقبولاً منك في دفع
حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي : أن
إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : مني . قال : فممن الدواء
؟ قال : مني. قال : فما بال الطبيب ؟ . قال : رجل أرسل الدواء على يديه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء"
، تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ،
فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء
، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت
حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية
والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت القوى التي هي حاملة لها ،
فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك
الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض
الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له
شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، وصادف داء قلبه ، أبرأه بإذن
الله تعالى .